سورة الرحمن - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ} قيل: في الجنتين المذكورتين. قال الزجاج: وانما قال: {فِيهِنَّ} ولم يقل فيهما، لأنه عني الجنتين وما أعد لصاحبهما من النعيم.
وقيل: {فِيهِنَّ} يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق، أي في هذه الفرش {قاصِراتُ الطَّرْفِ} أي نساء قاصرات الطرف، قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم. وقد مضى في {والصافات} ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع لأنه في معنى المصدر، من طرفت عينه تطرف طرفا، ثم سميت العين بذلك فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: قوم عدل وصوم.
الثانية: قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد. الفراء: والطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، طمثها يطمثها ويطمثها طمثا إذا افتضها. ومنه قيل: امرأة طامث أي حائض. وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطئها على أي الوجوه كان. إلا أن قول الفراء أعرف وأشهر. وقرأ الكسائي {لم يطمثهن} بضم الميم، يقال: طمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. وطمثت بالكسر لغة فهي طامث، وقال الفرزدق:
وقعن إلي لم يطمثن قبلي *** وهن أصح من بيض النعام
وقيل: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لم يمسهن، قال أبو عمرو: والطمث المس وذلك في كل شيء يمس. ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبلنا أحد، وما طمث هذه الناقة حبل، أي ما مسها عقال.
وقال المبرد: أي لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث التذليل. وقرأ الحسن {جان} بالهمزة.
الثالثة: في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة ويكون لهم فيها جنيات. قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالإنسيات للانس، والجنيات للجن.
وقيل: أي لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجن في الجنة من الحور العين من الجنيات جن، ولم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الانس في الجنة من الحور العين من الانسيات إنس، وذلك لان الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري. قلت: قد مضى في النمل القول في هذا وفي سبحان أيضا، وأنه جائز أن تطأ بنات آدم. وقد قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برين من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم، وذكره المهدوي أيضا والثعلبي وغيرهما والله أعلم.


{كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)}
قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ} روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها» وذلك بأن الله تعالى يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من ورائه ويروى موقوفا.
وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
وقال الحسن: هن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان. قوله تعالى: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} {هَلْ} في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}، وبمعنى الاستفهام كقوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}، وبمعنى الامر كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ}، و{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ}. قال عكرمة: أي هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا اله وعمل بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الجنة.
وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قاله ابن زيد.
وروى أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} ثم قال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» قالوا الله ورسوله أعلم، قال: «يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة».
وروى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية فقال: «يقول الله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي» وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه في الأبد.
وقال محمد ابن الحنفية والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة.


{وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)}
قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} أي وله من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين النخل والشجر، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط. الماوردي: ويحتمل أن يكون {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} لاتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الإناث.
وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقربين {فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ} و{عَيْنانِ تَجْرِيانِ}، وجنتان لأصحاب اليمين {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ}.
وقال ابن زيد: إن الأوليين من ذهب للمقربين، والأخريين من ورق لأصحاب اليمين. قلت: إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} إلى قوله: {مُدْهامَّتانِ} قال: تانك للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين. وعن أبي موسى الأشعري نحوه. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الأوليين: {فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ}، وفي الأخريين: {فيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ} أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين لان النضخ دون الجري.
وقال في الأوليين: {فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ} فعم ولم يخص.
وفي الأخريين: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ولم يقل كل فاكهة، وقال في الأوليين: {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو الديباج، وفي الأخريين {مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ} والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء.
وقال في الأوليين في صفة الحور: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ}، وفي الأخريين {فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ} وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقال في الأوليين: {ذَواتا أَفْنانٍ} وفي الأخريين {مُدْهامَّتانِ} أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والأخريين بالخضرة وحدها، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟ قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله في الخوف من الله تعالى. ومذهب الضحاك أن الجنتين الأوليين من ذهب وفضة، والأخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الأوليين، وقوله: {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} أي ومن أمامهما ومن قبلهما. وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول فقال: ومعنى {وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ} أي دون هذا إلى العرش، أي أقرب وأدنى إلى العرش، واخذ يفضلهما على الأوليين بما سنذكره عنه.
وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قوله تعالى: {مُدْهامَّتانِ} أي خضروان من الري، قاله ابن عباس وغيره.
وقال مجاهد: مسودتان. والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد فهو جون. وادهم الفرس ادهماما أي صار أدهم. وادهام الشيء ادهيماما أي اسواد، قال الله تعالى: {مُدْهامَّتانِ} أي سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر أسود.
وقال لبيد يرثي قتلى هوازن:
وجاءوا به في هودج ووراءه *** كتائب خضر في نسيج السنور
السنور لبوس من قد كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها. ويقال لليل المظلم: أخضر. ويقال: أباد الله خضراءهم أي سوادهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7